في عالم الابتكار التكنولوجي، يُعتبر لاري بيج أحد القلائل الذين لم يكتفوا بإعادة تعريف صناعة ما، بل قاموا بإنشاء صناعة جديدة بالكامل. فمنذ أن أسس مع صديقه سيرجي برين محرك البحث جوجل في مرآب متواضع، إلى أن تحولت الشركة إلى عملاق تكنولوجي عالمي تحت اسم ألفابت (Alphabet)، كانت رؤيته دائمًا ترتكز على فكرة بسيطة ولكنها ثورية: تنظيم معلومات العالم وجعلها في متناول الجميع.
لذلك، فإن قصة لاري بيج ليست مجرد حكاية عن بناء شركة ناجحة، بل هي قصة عن الشغف، والإصرار، والرؤية التي تخطت حدود الممكن. وفي هذا المقال، سنتعمق في رحلة بيج، من أيام دراسته في جامعة ستانفورد، ثم تأسيس جوجل، وصولًا إلى قيادته لمجموعة ألفابت، وأخيرًا دوره كعقل مدبر وراء بعض من أكثر المشاريع التكنولوجية طموحًا في عصرنا.
الفصل الأول: من البحث الأكاديمي إلى ثورة الإنترنت
شرارة الفكرة: بحث علمي يتخطى الحدود
ولد لورنس “لاري” إدوارد بيج في شرق لانسينغ، ميشيغان، عام 1973. بشكل خاص، كان والداه أستاذين في علوم الكمبيوتر، وهذا أثار اهتمامه بالتكنولوجيا منذ سن مبكرة. ولكن، كانت نقطة التحول في حياته خلال دراسته للدكتوراه في علوم الكمبيوتر بجامعة ستانفورد. هناك، التقى بزميله سيرجي برين، وكلاهما كانا يشتركان في شغف واحد: كيفية استخراج المعلومات من كم هائل من البيانات على الإنترنت.
في ذلك الوقت، كانت محركات البحث تعتمد على عدد مرات ظهور الكلمات المفتاحية، لكن بيج وبرين كانا يمتلكان فكرة مختلفة. فقد افترضا أن أهمية صفحة الويب يمكن تحديدها من خلال عدد الروابط التي تشير إليها من صفحات أخرى. وبالتالي، قاما بتطوير خوارزمية أطلقا عليها اسم “بيج رانك” (PageRank)، والتي أصبحت الأساس لمحرك بحثهما الجديد.
ولادة جوجل: من المرآب إلى العالم
وهكذا، في عام 1998، قرر بيج وبرين ترك دراستهما الأكاديمية لتأسيس شركتهما، جوجل. في البداية، كانا يعملان من مرآب صغير في مدينة مينلو بارك بكاليفورنيا، لكن سرعان ما بدأ محرك بحثهما في اكتساب شعبية واسعة، وذلك بفضل دقته وسرعته. على هذا النحو، تحولت جوجل من مشروع بحثي إلى شركة ناشئة حقيقية.
وعلاوة على ذلك، كان بيج وبرين يمتلكان رؤية تتخطى مجرد محرك بحث. فقد سعيا لتوسيع نطاق الشركة ليشمل خدمات أخرى، وبالتالي، قاما بإطلاق خدمات مثل جي ميل (Gmail) وخرائط جوجل (Google Maps)، وأيضًا قاموا بالاستحواذ على شركات مثل يوتيوب (YouTube). نتيجة لذلك، أصبحت جوجل مرادفًا للإنترنت نفسه.
الفصل الثاني: قيادة ألفابت ورؤية المستقبل
التحول إلى “ألفابت”
في عام 2015، أعلن لاري بيج عن إعادة هيكلة جذرية للشركة، حيث تم إنشاء شركة قابضة جديدة باسم ألفابت (Alphabet). كان الهدف من هذه الخطوة هو فصل الأنشطة الرئيسية والمربحة لجوجل عن المشاريع الطموحة (المعروفة بـ”الرهانات الأخرى”). وهكذا، أصبح بيج الرئيس التنفيذي لألفابت، بينما أصبح سوندار بيتشاي الرئيس التنفيذي لجوجل.
وبشكل خاص، كانت هذه الخطوة تهدف إلى إعطاء بيج الحرية للتركيز على المشاريع المستقبلية التي يراها ضرورية، بما في ذلك:
- وايمو (Waymo): شركة السيارات ذاتية القيادة.
- فيرلي (Verily): شركة علوم الحياة التي تسعى لتحسين صحة الإنسان.
- لون (Loon): مشروع توفير الإنترنت من خلال بالونات في طبقة الستراتوسفير (تم إغلاقه لاحقاً).
- إكس (X): مختبر يركز على “الأفكار الجريئة” التي قد تغير العالم.
وعلى هذا النحو، أثبت بيج أنه ليس مجرد رجل أعمال تقليدي، بل قائد يمتلك رؤية بعيدة المدى، حتى وإن بدت بعض مشاريعه أقرب إلى الخيال.
شخصية هادئة ومؤثرة
على عكس بعض قادة التكنولوجيا الآخرين، يفضل لاري بيج الابتعاد عن الأضواء. فمن المعروف أنه شخصية هادئة ومتحفظة، لكنه يتمتع بذكاء حاد وقدرة فريدة على التفكير على نطاق واسع. ففي الواقع، كان بيج معروفًا بتحفيزه للموظفين على التفكير “على نطاق 10x”، أي التفكير في حلول أكثر جرأة وعشر مرات أفضل من الحلول التقليدية. وفي هذا الصدد، يمكن القول إن تأثيره الأكبر يكمن في إلهام الموظفين والمهندسين لتحقيق أهداف تبدو مستحيلة.
لاري بيج
لاري بيج هو تجسيد حي لقصة رجل لا يكتفي بما هو موجود، بل يسعى دائمًا لخلق ما هو جديد. من تطوير خوارزمية بسيطة، إلى بناء إمبراطورية معلومات عالمية، إلى قيادة مشاريع تهدف إلى تغيير العالم، أثبت بيج أن الرؤية، والشغف، والإصرار هي مفاتيح النجاح الحقيقي. وفي النهاية، يمكننا القول إن إرثه لا يقتصر على محرك البحث الذي نستخدمه يوميًا، بل يمتد ليشمل الطموح اللامحدود الذي ألهم به الأجيال القادمة من رواد الأعمال والمخترعين.