المقدمة
ليست مجرد اختراع، بل هي بداية ثورة غيّرت وجه النقل والحياة البشرية إلى الأبد. الحديث هنا عن بينز باتنت موتورفاغن (Benz Patent-Motorwagen)، التي تُعتبر بالإجماع أول سيارة حقيقية تعمل بمحرك احتراق داخلي وتستحق التسجيل ببراءة اختراع. في عام 1886، لم يكن كارل بنز يخترع وسيلة نقل جديدة فحسب، بل كان يضع اللبنة الأولى لصناعة السيارات التي نعرفها اليوم، مانحاً البشرية القدرة على الحركة باستقلالية لم يسبق لها مثيل.
المولد والتصميم: براءة اختراع 37435
كارل بنز، المهندس الألماني، كان شغوفاً بفكرة بناء مركبة ذاتية الدفع لا تعتمد على الخيول. وقد أثمر هذا الشغف عن ميلاد “المركبة الآلية الحاصلة على براءة اختراع”، والتي سجلها بنز رسمياً في 29 يناير 1886 تحت رقم براءة الاختراع الألمانية 37435.
1. تصميم الثلاث عجلات
على عكس المركبات ذات الأربع عجلات التي نعرفها، صمم بنز سيارته الأولى بثلاث عجلات. كان هذا خياراً عملياً وذكيًا في ذلك الوقت:
- تحدي التوجيه: واجه بنز صعوبات في تصميم نظام توجيه فعال وآمن لأربع عجلات. لذا، اختار تصميماً بثلاث عجلات، بعجلة واحدة في المقدمة وعجلتين كبيرتين في الخلف، مما سهّل عملية التوجيه بشكل كبير.
- الهيكل: كان الهيكل مصنوعاً من أنابيب فولاذية ملحومة، مما يوفر خفة الوزن والمتانة.
2. المحرك الأحادي الأسطوانة
كان المحرك هو جوهر الابتكار الذي ميز مركبة بنز عن أي عربة سابقة:
- الوقود: استخدم المحرك البنزين كمصدر للطاقة.
- القدرة: كان المحرك أفقياً أحادي الأسطوانة رباعي الأشواط، ووصلت قدرته في النموذج الأول (Model I) إلى 0.75 حصان (حوالي 0.55 كيلوواط).
- التبريد: كان المحرك يعتمد على نظام تبريد بالتبخير (Evaporative Cooling)، مما سمح له بالعمل دون ارتفاع درجة حرارته.
- السرعة القصوى: بلغت سرعة السيارة في أحسن الظروف حوالي 16 كيلومتراً في الساعة.
الرحلة التاريخية: برتا بنز والشهرة
لم يكن الجمهور في البداية مقتنعاً بجدوى اختراع بنز. كانت السيارة صاخبة، وغير عملية، وتتطلب وقوداً غير متوفر بسهولة (إذ كان بنز يشتري البنزين من الصيدليات، حيث كان يُباع كـ”مذيب”). لكن كل هذا تغير بفضل مغامرة جريئة قامت بها زوجته، برتا بنز (Bertha Benz).
1. الدافع والمغامرة
في أغسطس 1888، قررت برتا بنز أن تثبت للعالم ولزوجها إمكانية استخدام المركبة الجديدة، فقادت السيارة سراً مع ابنيها (ريتشارد ويوجين) في رحلة غير مصرح بها.
- المسار: انطلقت برتا من مدينة مانهايم إلى بفورتسهايم، في رحلة ذهاب وعودة بلغت مسافتها حوالي 106 كيلومترات.
- أول سائق وأول محطة وقود: لم تكن هناك محطات وقود بالطبع. اعتمدت برتا على الصيدليات لشراء البنزين (البترول الخفيف)، وتُعتبر صيدلية المدينة في فيزلخ أول محطة وقود في التاريخ. كما أنها أصلحت مشاكل تقنية بنفسها على الطريق، واستخدمت دبوس قبعتها لتنظيف أنابيب الوقود المسدودة.
2. الأثر
كانت رحلة برتا بنز انتصاراً دعائياً هائلاً. لقد أثبتت الرحلة علناً أن السيارة:
- عملية: يمكنها تحمل مسافات طويلة.
- موثوقة: يمكن إصلاحها وصيانتها أثناء التنقل.
- تجذب الانتباه: جلب هذا الحدث تغطية إعلامية واسعة، مما دفع كارل بنز لإجراء التحسينات اللازمة على التصميم وبدء الإنتاج التجاري.
الإرث الدائم
تعد بينز باتنت موتورفاغن حجر الزاوية الذي بنيت عليه صناعة السيارات الحديثة، وما زال إرثها حاضراً حتى اليوم.
- الأساس الهندسي: رسخت المركبة المفهوم الأساسي للسيارة: هيكل خفيف، محرك احتراق داخلي، نظام توجيه، وتبريد.
- كارل بنز: لا يزال يُعتبر الأب الفعلي للسيارة الحديثة. وقد اندمجت شركته لاحقاً لتصبح جزءاً من شركة مرسيدس-بنز (Mercedes-Benz) الشهيرة.
- رحلة برتا: تم الاحتفال بمسار رحلتها التاريخية كـطريق برتا بنز التذكاري في ألمانيا، كرمز للجرأة والرؤية التي غيرت طريقة تنقل البشر.
في النهاية، لم تكن بينز باتنت موتورفاغن مجرد قطعة من الميكانيكا؛ بل كانت رؤية للمستقبل، حيث أطلقت العنان لحرية الحركة الفردية ومهدت الطريق لعالم يعتمد كلياً على عجلات المحركات.